فصل: من فوائد الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(وَالْجَوَابُ الثَّانِي) أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ مَعَ مُنْكِرِيهِ، ثُمَّ مَا زَادُوا فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الَّتِي هِيَ أُمَّهَاتُ الْعَقَائِدِ عَلَى أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ أَقْنَعَهُ ذَلِكَ قَبِلُوهُ وَمَنْ لَمْ يُقْنَعْ قَتَلُوهُ، وَعَدَلُوا إِلَى السَّيْفِ وَالسِّنَانِ بَعْدَ إِفْشَاءِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَمَا رَكِبُوا ظَهْرَ اللَّجَاجِ فِي وَضْعِ الْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ وَتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَتَحْرِيرِ طَرِيقِ الْمُجَادَلَةِ، وَتَذْلِيلِ طُرُقِهَا وَمِنْهَاجِهَا، كُلُّ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مَثَارُ الْفِتَنِ وَمَنْبَعُ التَّشْوِيشِ، وَمَنْ لَا يُقْنِعْهُ أَدِلَّةُ الْقُرْأن لا يَقْمَعُهُ إِلَّا السَّيْفُ وَالسِّنَانُ، فَمَا بَعْدَ بَيَانِ اللهِ بَيَانٌ، عَلَى أَنَّنَا نُنْصِفُ وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ حَاجَةَ الْمُعَالَجَةِ تَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ، وَأَنَّ لِطُولِ الزَّمَانِ وَبَعْدَ الْعَهْدِ عَنْ عَصْرِ النُّبُوَّةِ تَأْثِيرًا فِي إِثَارَةِ الْإِشْكَالَاتِ، وَأَنَّ لِلْعِلَاجِ طَرِيقَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا): الْخَوْضُ فِي الْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ إِلَى أَنْ يَصْلُحَ وَاحِدٌ يَفْسُدُ بِهِ اثْنَانِ، فَإِنَّ صَلَاحَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَكْيَاسِ وَفَسَادَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْبُلْهِ، وَمَا أَقَلَّ الْأَكْيَاسَ وَمَا أَكْثَرَ الْبُلْهَ وَالْعِنَايَةُ بِالْأَكْثَرِينَ أَوْلَى.
(وَالطَّرِيقُ الثَّانِي): طَرِيقُ السَّلَفِ فِي الْكَفِّ وَالسُّكُوتِ وَالْعُدُولِ إِلَى الدِّرَّةِ وَالسَّوْطِ وَالسَّيْفِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُقْنِعُ الْأَكْثَرِينَ وَإِنْ كَأن لا يُقْنِعُ الْأَقَلِّينَ، وَآيَةُ إِقْنَاعِهِ أَنَّ مَنْ يُسْتَرَقُّ مِنَ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ تَرَاهُمْ يُسْلِمُونَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ يَسْتَمِرُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ طَوْعًا مَا كَانَ فِي الْبِدَايَةِ كُرْهًا، وَيَصِيرَ اعْتِقَادُهُ جَزْمًا مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ مِرَاءً وَشَكًّا، وَذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ أَهْلِ الدِّينِ وَالْمُؤَانَسَةِ بِهِمْ وَسَمَاعِ كَلَامِ اللهِ وَرُؤْيَةِ الصَّالِحِينَ وَخَبَرِهِمْ وَقَرَائِنَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ تُنَاسِبُ طِبَاعَهُمْ مُنَاسَبَةً أَشَدَّ مِنْ مُنَاسَبَةِ الْجَدَلِ وَالدَّلِيلِ؛ فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِلَاجَيْنِ يُنَاسِبُ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ وَجَبَ تَرْجِيحُ الْأَنْفَعِ فِي الْأَكْثَرِ، فَالْمُعَاصِرُونَ لِلطَّبِيبِ الْأَوَّلِ الْمُؤَيَّدِ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْمُكَاشَفِ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُوحَى إِلَيْهِ مِنَ الْخَبِيرِ الْبَصِيرِ بِأَسْرَارِ عِبَادِهِ وَبَوَاطِنِهِمْ أَعْرَفُ بِالْأَصْوَبِ وَالْأَصْلَحِ قَطْعًا، فَسُلُوكُ سَبِيلِهِمْ لَا مَحَالَةَ أَوْلَى.

.الْوَظِيفَةُ السَّابِعَةُ: التَّسْلِيمُ لأهل الْمَعْرِفَةِ:

وَبَيَانُهُ أنه يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَا انْطَوَى عَنْهُ مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ وَأَسْرَارِهَا لَيْسَ مُنْطَوِيًا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَنِ الصِّدِّيقِ وَعَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَعَنِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا انْطَوَى عَنْهُ لِعَجْزِهِ وَقُصُورِ مَعْرِفَتِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِيسَ بِنَفْسِهِ غَيْرَهُ وَلَا تُقَاسُ الْمَلَائِكَةُ بِالْحَدَّادِينَ، وَلَيْسَ مَا تَخْلُو عَنْهُ مَخَادِعُ الْعَجَائِزِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَخْلُوَ عَنْهُ خَزَائِنُ الْمُلُوكِ، فَقَدْ خُلِقَ النَّاسُ أَشْتَاتًا وَمُتَفَاوِتِينَ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ فَانْظُرْ إِلَى تَفَاوُتِهَا وَتُبَاعُدِ مَا بَيْنَهُمَا صُورَةً وَلَوْنًا وَخَاصِّيَّةً وَنَفَاسَةً، فَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ مَعَادِنُ لِسَائِرِ جَوَاهِرِ الْمَعَارِفِ فَبَعْضُهَا مَعْدِنٌ لِلنُّبُوَّةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْعِلْمِ وَمَعْرِفَةِ اللهِ تعالى، وَبَعْضُهَا مَعْدِنٌ لِلشَّهَوَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الشَّيْطَانِيَّةِ، بَلْ تَرَى النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ، فَقَدْ يَقْدِرُ الْوَاحِدُ بِخِفَّةِ يَدِهِ، وَحَذَاقَةِ صِنَاعَتِهِ عَلَى أُمُورٍ لَا يَطْمَعُ الْآخَرُ فِي بُلُوغِ أَوَائِلِهَا فَضْلًا عَنْ غَايَتِهَا، وَلَوِ اشْتَغَلَ بِتَعَلُّمِهَا جَمِيعَ عُمْرِهِ فَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ اللهِ تعالى، بَلْ كَمَا يَنْقَسِمُ النَّاسُ إِلَى جَبَانٍ عَاجِزٍ لَا يُطِيقُ النَّظَرَ إِلَى الْتِطَامِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ وَإِنْ كَانَ عَلَى سَاحِلِهِ، وَإِلَى مَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ الْخَوْضُ فِي أَطْرَافِهِ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا فِي الْمَاءِ عَلَى رِجْلِهِ، وَإِلَى مَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ لَكِنْ لَا يُطِيقُ رَفْعَ الرِّجْلِ عَنِ الْأَرْضِ اعْتِمَادًا عَلَى السِّبَاحَةِ، وَإِلَى مَنْ يُطِيقُ السِّبَاحَةَ إِلَى حَدٍّ قَرِيبٍ مِنَ الشَّطِّ لَكِنْ لَا يُطِيقُ خَوْضَ الْبَحْرِ إِلَى لُجَّتِهِ وَالْمَوَاضِعِ الْمُغْرِقَةِ الْمُخْطِرَةِ، وَإِلَى مَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ لَكِنْ لَا يُطِيقُ الْغَوْصَ فِي عُمْقِ الْبَحْرِ إِلَى مُسْتَقَرِّهِ الَّذِي فِيهِ نَفَائِسُهُ وَجَوَاهِرُهُ، فَهَكَذَا مِثَالُ بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ وَتَفَاوُتِ النَّاسِ فِيهِ مِثْلُهُ «حَذْوَ الْقُّذَّةِ بِالْقُذَّةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ».
فَإِنْ قِيلَ: فَالْعَارِفُونَ مُحِيطُونَ بِكَمَالِ مَعْرِفَةِ اللهِ سبحانه حَتَّى لَا يَنْطَوِي عَنْهُمْ شَيْءٌ قُلْنَا: هَيْهَاتَ، فَقَدْ بَيَّنَّا بِالْبُرْهَانِ الْقَطْعِيِّ فِي كِتَابِ (الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى فِي مَعَانِي أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى) أنه لَا يَعْرِفُ اللهَ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ الْخَلَائِقَ وَإِنِ اتَّسَعَتْ مَعْرِفَتُهُمْ وَغَزُرَ عِلْمُهُمْ- فَإِذَا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِ اللهِ سبحانه فَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْحَضْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ مُحِيطَةٌ بِكُلِّ مَا فِي الْوُجُودِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللهُ وَأَفْعَالُهُ، فَالْكُلُّ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا أَنَّ جَمِيعَ أَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ فِي الْمُعَسْكَرِ حَتَّى الْحُرَّاسُ هُمْ مِنَ الْمُعَسْكَرِ، فَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْحَضْرَةِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَأَنْتَ لَا تَفْهَمُ الْحَضْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ إِلَّا بِالتَّمْثِيلِ إِلَى الْحَضْرَةِ السُّلْطَانِيَّةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ دَاخِلٌ فِي الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَكِنْ كَمَا أَنَّ السُّلْطَانَ لَهُ فِي مَمْلَكَتِهِ قَصْرٌ خَاصٌّ وَفِي فِنَاءِ قَصْرِهِ مَيْدَانٌ وَاسِعٌ، وَلِذَلِكَ الْمَيْدَانِ عَتَبَةٌ يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا جَمِيعُ الرَّعَايَا وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ مُجَاوَزَةِ الْعَتَبَةِ وَلَا إِلَى طَرَفِ الْمَيْدَانِ ثُمَّ يُؤْذَنُ لِخَوَاصِّ الْمَمْلَكَةِ فِي مُجَاوَزَةِ الْعَتَبَةِ، وَدُخُولِ الْمَيْدَانِ وَالْجُلُوسِ فِيهِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِحَسْبِ مَنَاصِبِهِمْ، وَرُبَّمَا لَمْ يَطْرُقْ إِلَى الْقَصْرِ الْخَاصِّ إِلَّا الْوَزِيرُ وَحْدَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ يُطْلِعُ الْوَزِيرَ مِنْ أَسْرَارِ مُلْكِهِ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَيَسْتَأْثِرُ عَنْهُ بِأُمُورٍ لَا يُطْلِعُهُ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ فَافْهَمْ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ تَفَاوُتَ الْخَلْقِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَالْعَتَبَةُ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْمَيْدَانِ مَوْقِفُ جَمِيعِ الْعَوَامِّ وَمَرَدُّهُمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى مُجَاوَزَتِهَا، فَإِنْ جَاوَزُوا حَدَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا الزَّجْرَ وَالتَّنْكِيلَ، وَأَمَّا الْعَارِفُونَ فَقَدْ جَاوَزُوا الْعَتَبَةَ وَانْسَرَحُوا فِي الْمَيْدَانِ، وَلَهُمْ فِيهِ جَوَلَانٌ عَلَى حُدُودٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَتَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمْ كَثِيرٌ، وَإِنِ اشْتَرَكُوا فِي مُجَاوَزَةِ الْعَتَبَةِ وَتَقَدَّمُوا عَلَى الْعَوَامِّ الْمُفْتَرِشِينَ، وَأَمَّا حَظِيرَةُ الْقُدْسِ فِي صَدْرِ الْمَيْدَانِ فَهِيَ أَعْلَى مِنْ أَنْ تَطَأَهَا أَقْدَامُ الْعَارِفِينَ، وَأَرْفَعُ مِنْ أَنْ تَمْتَدَّ إِلَيْهَا أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ، بَلْ لَا يَلْمَحُ ذَلِكَ الْجَنَابَ الرَّفِيعَ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ إِلَّا غَضَّ مِنَ الدَّهْشَةِ وَالْحَيْرَةِ طَرْفَهُ فَانْقَلَبَ إِلَيْهِ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ؛ فَهَذَا مَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ جُمْلَةً وَإِنْ لَمْ يُحِطْ بِهِ تَفْصِيلًا، فَهَذِهِ هِيَ الْوَظَائِفُ السَّبْعُ الْوَاجِبَةُ عَلَى عَوَامِّ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الأخبار الَّتِي سَأَلْتَ عَنْهَا. وَهِيَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ السَّلَفِ، وَأَمَّا الْآنُ فَنَشْتَغِلُ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ. اهـ.
أَقُولُ: ثُمَّ إِنَّ الْغَزَالِيَّ أَوْرَدَ بَعْدَ هَذَا فَصْلًا فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ، وَقَدْ عَلِمْتَ صَفْوَةَ الْمَذْهَبِ مِمَّا سَلَفَ. وَنَعُودُ إِلَى تَفْسِيرِ بَاقِي الْآيَات. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}:
إذن فبعدما صَوَّرَنا في الأرحام كيف يشاء على مُقتضى حكمته لن يترك الصور بدون منهج للقيم، بل صنع منهج القيم بأن أنزل القرآن وفيه منهج القيم، ولابد أن نأخذ الشيء بجوار الحكمة منه، وإذا أخذنا الشيء بجوار الحكمة منه يوجد كل أمر مستقيما كله جميل وكله خير. فيقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ}.
ماذا يعني الحق بقول: {آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ}؟ إن الشيء المحكم هو الذي لا يتسرب إليه خلل ولا فساد في الفهم؛ لأنه محكم، وهذه الآيات المحكمة هي النصوص التي لا يختلف فيها الناس، فعندما يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
هذه آية تتضمن حُكما واضحا. وهو سبحانه يقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} [النور: 2].
هذه أيضا أمور واضحة، هذا هو المُحكم من الآيات، فالمُحكم هو ما لا تختلف فيه الأفهام؛ لأن النص فيه واضح وصريح لا يحتمل سواه، والمُتشابه هو الذي نتعب في فهم المراد منه، ومادمنا سنتعب في فهم المراد منه فلماذا أنزله؟
ويوضح لنا سبحانه- كما قلت لك- خذ الشيء مع حكمته كي تعرف لماذا نزل؟ فالمُحْكم جاء للأحكام المطلوبة من الخلق، أي افعل كذا، ولا تفعل كذا، ومادامت أفعالا مطلوبة من الخلق فالذي فعلها يُثاب عليها، والذي لم يفعلها يُعاقب، إذن فسيترتب عليها ثواب وعقاب، فيأتي بها صورة واضحة، وإلا لقال واحد: أنا لم أفهم، إن الأحكام تقول لك: افعل كذا ولا تفعل كذا فهي حين تقول: افعل؛ أنت صالح ألا تفعل، فلو كنت مخلوقًا على أنك تفعل فقط؛ لا يقول لك: افعل، لكن لأنك صالح أن تفعل وألا تفعل فهو يقول لك: افعل.
وساعة يقول لك: لا تفعل، فأنت صالح أن تفعل، فلا يقال: افعل ولا تفعل إلاّ لأنه خلق فيك صلاحية أن تفعل أو لا تفعل، ونلحظ أنه حين يقول لي: افعل كذا ولا تفعل كذا يريد أن أقف أمام شهوة نفسي في الفعل والترك، ولذلك يقول الحق في الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلا على الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].
فعندما يقول لي: افعل ولا تفعل معناها: أن فيه أشياء تكون ثقيلة أن أفعلها، وأن شيئا ثقيلا علي أن أتركه، فمثلا البصر خلقه الله صالحا لأن يرى كل ما في حيِّزه. على حسب قانون الضوء، والحق يقول له: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101].
ولكن عند المرأة التي لا يحل لك النظر إليها يقول الحق: اغضض.
{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30- 31].
ومعنى {يَغُضُّواْ} و{يَغْضُضْنَ} أنه سبحانه حدد حركة العين، ومثال آخر؛ اليد تتحرك فيأمرك سبحانه ألاّ تحركها إلا في مأمور به، فلا تضرب بها أحدًا، ولا تشعل بها نارًا تحرق وتفسد بل أشعل بها النار لتطبخ مثلًا.
إذن فهو سبحانه يأتي في افعل ولا تفعل ويحدد شهوات النفس في الفعل أو الترك، فإن كانت شهوة النفس بأنها تنام، يقول الأمر التعبدي: قم وصل، وإن كانت شهوة النفس بأنها تغضب يقول الأمر الإيماني: لا تغضب.
إذن فالحكم إنما جاء بافعل ولا تفعل لتحديد حركة الإنسان، فقد يريد أن يفعل فعلًا ضارًا؛ فيقول له: لا تفعل، وقد يريد ألاّ يفعل فعل خير يقول له: افعل. إذن فكل حركات الإنسان محكومة بافعل ولا تفعل، وعقلك وسيلة من وسائل الإدراك، مثل العين والأذن واللسان. إن مهمة العقل أن يدرك، فتكليفه يدعوه إلى أن يفهم أمرًا ولا يفهم أمرا آخر، وجعل الله الآيات المحكمات ليريح العقل من مهمة البحث عن حكمة الأمر المحكم؛ لأنها قد تعلو الإدراك البشري. ويريد الحق أن يلزم العبد آداب الطاعة حتى في الشيء الذي لا تدرك حكمة تشريعه، وأيضا لتحرك عقلك لترد كل المتشابه إلى المحكم من الآيات. وإذا قرأنا قول الحق: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103].
نرى أن ذلك كلام عام. وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22- 23].
ويتكلم عن الكفار فيقول: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
إذن فالعقل ينشغل بقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}، وهذا يحدث في الدنيا، أما في الآخرة فسيكون الإنسان قد تم إعداده إعدادًا آخر ليرى الله، نحن الآن في هذه الدنيا بالطريقة التي أعدنا بها الله لنحيا في هذا العالم لا نستطيع أن نرى الله، ومسألة إعداد شيء ليمارس مهمة ليس مؤهلا ولا مهيأ لها الآن، أمر موجود في دنيانا، فنحن نعرف أن إنسانا أعمى يتم إجراء جراحة له أو يتم صناعة نظارة طبية له فيرى. ومن لا يسمع أو ثقيل السمع نصنع له سماعة فيسمع بها.
فإذا كان البشر قد استطاعوا أن يُعِدُّوا بمقدوراتهم في الكون المادي أشياء لتؤهلهم إلى استعادة حاسة ما، فما بالنا بالخالق الأكرم الإله المُربّي، ألا يستطيع أن يعيد خلقنا في الآخرة بطريقة تتيح لنا أن نرى ذاته ووجهه؟! أنه القادر على كل شيء.
إذن فالأمر هنا متشابه، إن الله يُدرَك- بضم الياء وفتح الراء- أو لا يُدْرَك، فما الذي تغير من الأحكام بالنسبة لك؟ لا شيء. إذن فهذه الآيات المتشابهات لم تأتِ من أجل الأحكام، إنما هي قد جاءت من أجل الإيمان فقط، ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهي كل خلاف للعلماء حول هذه المسألة بقوله وهو الرسول الخاتم: «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به».
إن المُتشَابه من الآيات قد جاء للإيمان به، والمُحْكَم من الآيات إنما جاء للعمل به، والمؤمن عليه دائما أن يرد المُتشَابِه إلى المُحْكَم. مثال ذلك عندما نسمع قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].
إن الإنسان قد يتساءل: هل لله يد؟ على الإنسان أن يرد ذلك إلى نطاق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وعندما يسمع المؤمن قول الحق: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
فهل لله جسم يستقر به على عرش؟ هنا نقول: هذا هو المُتشَابِه الذي يجب على المؤمن الإيمان به، ذلك أن وجودك أيها الإنسان ليس كوجود الله، ويدك ليست كيد الله وأن استواءك أيضا ليس كاستواء الله. ومادام وجوده سبحانه ليس كوجودك وحياته ليست كحياتك فلماذا تريد أن تكون يده كيدك؟
هو كما قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. ولماذا أدخلنا الله إلى تلك المجالات؟ لأن الله يريد أن يُلفت خلقه إلى أشياء قد لا تستقيم في العقول؛ فمن يتسع ظنه إلى أن يؤول ويردها إلى المُحْكَم بأن الله ليس كمثله شيء. فله ذلك، ومن يتسع ظنه ويقول: أنا آمنت بأن لله يدًا ولكن في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فله ذلك أيضا وهذا أسلم.
والحق يقول: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} ومعنى {أُمُّ} أي الأصل الذي يجب أن ينتهي إليه تأويل المُتشَابه إن أوّلت فيه، أو تُرجعه إلى المُحكم فتقول: إن لله يدًا، ولكن ليست كأيدي البشر. إنما تدخل في نطاق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
ولماذا قال الحق: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}؟ ولم يقل: هن أمهات الكتاب؟ لك أن تعرف أيها المؤمن أنه ليس كل واحدة منهن أما، ولكن مجموعها هو الأم، ولتوضيح ذلك فلنسمع قول الحق: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50].
لم يقل الحق: إنهما آيتان؛ لأن عيسى عليه السلام لم يوجد كآية إلا بميلاده من أمه دون أب أي بضميمة أمه، وأم عيسى لم تكن آية إلا بميلاد عيسى أي بضميمة عيسى. إذن فهما معًا يكونان الآية، وكذلك {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فالمقصود بها ليس كل محكم أُمّا للكتاب، إنما المحكمات كلها هي الأم، والأصل الذي يَرُدُّ إليه المؤمن أيَّ متشابهٍ. ومهمة المحكم أن نعمل به، ومهمة المتشابه أن نؤمن به؛ بدليل أنك إن تصورته على أي وجه لا يؤثر في عملك.
فقوله الحق: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} لا يترتب عليه أي حكم، هنا يكفي الإيمان فقط.
لكن ماذا من أمر الذين قال عنهم الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}؟. ولنا أن نعرف أن الزيغ هو الميْل، فزاغ يعني مال، وهي مأخوذة من تزايغ الأسنان، أي اختلاف منابتها، فسنَّةٌ تظهر داخلة، وأخرى خارجة، وعندما لا تستقيم الأسنان في طريقة نموها يصنعون لها الآن عمليات تجميل وتقويم ليجعلوها صفًا واحدًا.